رعاية الأطفال
Caring for the kids
يواجه الملايين من صغار السن الموت كل عام. لذا تبرز الحاجة إلى بذل المزيد من الجهد من أجل توفير رعاية صحية وخدمات وبيئات أفضل للأطفال.
لا شك أن العالم قد أحرز تقدماً ملحوظاً فيما يتعلق بتحسين صحة الأطفال خلال العقود الأخيرة. فقد أدى التركيز على بقاء الأطفال دون سن الخامسة على قيد الحياة إلى انخفاض الوفيات بين هذه الفئة العمرية بشكل ملحوظ. فمنذ عام 1990، تراجع معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة على مستوى العالم بحوالي 60٪، لينخفض من 93 حالة وفاة لكل 1000 حالة ولادة حية في عام 1990 إلى 37 فقط في عام 2022، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) نُشر هذا العام. من ناحية أخرى، أوضحت أحدث الإحصائيات أن الوفيات السنوية للأطفال دون سن الخامسة قد وصلت إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق مسجلة 4.9 مليون طفل.[1]
على الرغم من ذلك، تؤكد اليونيسف أن عدد الوفيات بين الأطفال والشباب لا يزال مرتفعاً على نحو غير مرضٍ على الرغم من التقدم الكبير الذي تحقق. ويسلط تقريرها الضوء على أنه بالإضافة إلى وفيات الأطفال دون سن الخامسة، كان هناك 2.1 مليون حالة وفاة أخرى بين الأطفال والشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و24 عاماً. وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2000 و2022، فقد العالم 221 مليون طفل ومراهق وشاب – وهو ما يعادل إجمالي عدد سكان نيجيريا تقريباً. وبينما تشير اليونيسف إلى أن هذه “اللحظة جديرة بالملاحظة والتوثيق”، تؤكد في الوقت نفسه أن التهديدات التي تواجه صحة الأطفال وبقائهم على قيد الحياة لا تزال قائمة على مستوى العالم، وخاصة في المجتمعات الفقيرة وبين الطبقات المهمشة.
ومما يثير القلق أن المؤشرات الرئيسة تشير إلى توقف عجلة التقدم. فمنذ عام 2015 وحتى 2022، تراجع معدل الوفيات العالمي للأطفال دون سن الخامسة إلى النصف بنفس السرعة التي انخفض بها بين عامي 2000 و2015[2]. من ناحية أخرى، تنخفض الوفيات بمعدل أبطأ بين الأطفال حديثي الولادة (خلال ال 28 يوماً الأولى بعد الولادة). وتجدر الإشارة إلى أن هذه الوفيات تمثل ما يقرب من نصف وفيات الأطفال دون سن الخامسة على مستوى العالم. من ناحية أخرى، ظل معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة ثابتاً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى – وهي المنطقة التي تمثل غالبية هذه الوفيات. وتؤكد اليونيسف أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية كما هي دون تغيير، سيصعب على 59 دولة تحقيق الهدف المتعلق بالحد من وفيات الأطفال دون سن الخامسة كما جاء في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في الوقت المحدد (هدف التنمية المستدامة 3.2)، بينما ستخفق 64 دولة في تحقيق هدف الحد من وفيات الأطفال حديثي الولادة.[3]
وتخلص منظمة اليونيسيف إلى أن “الطريق لا يزال طويلاً كي نتجنب وفيات الأطفال والشباب متى يمكننا ذلك”. وبطبيعة الحال، لا تعني صحة الطفل البقاء على قيد الحياة وحسب، بل ترتبط أيضا بدعم الرفاهة والصحة العامة، إذ تؤكد منظمة الصحة العالمية أن “صحة الطفل ونموه وتطوره وجهان لعملة واحدة”. وتحذر المنظمة من أنه في عام 2016، لم يتمكن ما لا يقل عن 250 مليون طفل من بلوغ كامل النمو البدني أو النفسي، وأن “ما من دولة الآن توفر الظروف اللازمة لدعم كل طفل كي يكبر ويحظى بمستقبل صحي[4]“. فيبدو أن التحديات الهائلة لا تزال تواجه مجهودات دعم وتحسين صحة الأطفال في جميع أنحاء العالم.
تحديات جديدة
وفقاً للأمم المتحدة، تعد الولادة المبكرة والمضاعفات التي قد تحدث أثناء المخاض الأسباب الرئيسة لوفاة الأطفال حديثي الولادة. وبالنسبة للأطفال الذين يبقون على قيد الحياة خلال الأيام الثمانية والعشرين الأولى، يتمثل التهديد الأكبر في الأمراض المعدية التي تشمل الملاريا والالتهاب الرئوي والإسهال[5] (فقد كانت هذه العوامل مجتمعة مسؤولة عن حوالي 30٪ من وفيات الأطفال دون سن الخامسة على مستوى العالم في عام [6]2019). ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يمكن منع العديد من وفيات الأطفال من خلال بعض التدابير التي تشمل التطعيم والرعاية المنزلية وتحسين إمكانيات الحصول على الرعاية الصحية[7]. وتشمل التدخلات المحددة التي سلطت اليونيسف الضوء عليها وجود أطباء احترافيين يحضرون الولادات، ورعاية الأطفال حديثي الولادة من المبتسرين والمرضى. من ناحية أخرى، تؤكد المنظمة على ضرورة الحد من عوامل الخطر التي تشمل – على سبيل المثال – سوء التغذية. وأشاد التقرير بالتزام الحكومات والمنظمات والمجتمعات المحلية ومقدمي خدمات الرعاية الصحية الاحترافيين والأسر بتحقيق الأهداف المرجوة، وبما تم إحرازه من تقدم خلال العقود الأخيرة، لكنه أضاف أن “الاستثمارات المهمة والعاجلة” جد ضرورية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.
لا شك أن القضايا الناشئة التي باتت تتصدر المشهد تفرض المزيد من الصعوبات والعراقيل. ففي عام 2020، حذرت لجنة مؤلفة من 40 خبيراً شكلتها منظمة الصحة العالمية واليونيسيف ومجلة لانسيت (لجنة لانسيت) في أحد التقارير من أن التحديات الجديدة “تتزايد بسرعة وتهدد التقدم الذي أحرزه العالم والنجاحات التي تحققت خلال العقدين الماضيين”. فقد أكدت اللجنة أن حالة الطوارئ المناخية تجعل من الصعب تحقيق رفاهة الأطفال وسلامتهم في عالم المستقبل، كما أكدت أن منظومة الدعاية والاستغلال التجاري تروج “للأنشطة المدمرة التي يدمنها صغار السن بسهولة” والتي تضر في نهاية المطاف بصحتهم. ويقع التدهور البيئي والهجرة والصراع وعدم المساواة ضمن عوامل الخطر أيضاً.
العوامل البيئية
يذهب تقرير لجنة لانسيت[8] إلى أن تغير المناخ يمثل تهديدات هائلة للصحة في جميع أنحاء العالم، كما يترتب عليه عواقب وخيمة تقع على عاتق الأطفال والشباب مثل عدم تحقيق أهداف الاستدامة. ويشير التقرير إلى أن اضطرابات المناخ تنطوي على “مخاطر جمة” تشمل انعدام الأمن الغذائي والمائي، والطقس المتطرف، والإجهاد الحراري، والأمراض المعدية الجديدة. وتقول اللجنة إن أكثر من 2 مليار شخص يعيشون في بلدان تتأثر فيها التنمية (وبالتالي إمكانات الرعاية الصحية) بالمشكلات السياسية والصراعات – وهي مسائل ترتبط بشكل أساسي بالاحتباس الحراري العالمي. وفي عام 2018، نزح 40 مليون شخص، كان بينهم العديد من الأطفال، بسبب الصراعات أو الكوارث الطبيعية أو تغير المناخ – ومن المرجح أن يكون هذا الرقم قد زاد بشكل كبير في السنوات الأخيرة ليعكس الضبابية والاضطراب الجيوسياسي المنتشر في جميع بقاع العالم. ويشير التقرير إلى أن الأطفال هم الأكثر عرضة للتأثيرات البيئية طويلة الأجل لتغير المناخ، والتلوث البيئي الناجم عن الصناعة.
ويؤثر تغير أنماط الطقس تأثيراً بالغاً على الجهود المبذولة من أجل التصدي للأمراض التي تعد من الأسباب الرئيسة لوفيات الأطفال. ويؤكد تقرير صدر هذا العام عن تحالف القادة الأفارقة لمكافحة الملاريا (ALMA) – والذي يتألف من 55 رئيس دولة وحكومة – يؤكد أن تغير المناخ “يمثل تهديداً كبيراً للصحة وجهود مكافحة الملاريا”. ويحذر التقرير من أن تكرار الكوارث الطبيعية لن يتمخض عنه إتلاف البنية التحتية ونزوح السكان وحسب. فارتفاع درجات الحرارة وزيادة معدلات هطول الأمطار من شأنهما أن يؤديان إلى زيادة فرص انتقال وانتشار الأمراض. في هذا السياق، يشير التقرير إلى إعصار فريدي – على سبيل المثال – باعتباره أقوى وأطول إعصار استوائي مسجل على الإطلاق، موضحاً أنه ضرب العديد من البلدان في جنوب إفريقيا في عام 2023، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص في ملاوي[9]. ويسلط تحالف القادة الأفارقة لمكافحة الملاريا الضوء على الضرر الذي ألحقه الإعصار بمئات المرافق الصحية وتدميرها وترك السكان دون وقاية من البعوض. في الوقت نفسه، بات من الصعب استعادة الخدمات بسبب الطرق المتضررة والبنية التحتية المتهالكة. ويؤكد التقرير أنه: “بدون اتخاذ إجراءات عاجلة، ستكون حالات الإصابة بالملاريا والأمراض الاستوائية الأخرى والوفيات ضمن العواقب الوخيمة لتغير المناخ “.
وفيما يتعلق بالتصدي لأمراض الإسهال، يرى الباحثون أن تغير المناخ يمثل تهديداً هائلاً لما تم إحرازه من تقدم في هذا المضمار مؤخراً. قد أوضحت دراسة أجرتها جامعة ساري أن ارتفاع درجات الحرارة ومعدلات الرطوبة يرتبطان بزيادة انتشار داء العطيفة، وهو عدوى بكتيرية يمكن أن تسبب الإسهال.[10] من ناحية أخرى، قد تؤدي الأحداث المناخية المتطرفة، والتي تشمل الأمطار الغزيرة المفاجئة، إلى فيضان المصارف، مما يؤدي إلى تلويث مصادر المياه العذبة[11].
وبالإضافة إلى تغير المناخ، أكدت مقالة منفصلة صدرت في مجلة لانسيت في عام 2022 أن تلوث الهواء والمواد الكيميائية السامة تشكل أيضاً مخاطر جديرة بالملاحظة على صحة الأطفال[12]. فقد يؤدي التعرض لمثل هذه المخاطر البيئية قبل الولادة إلى زيادة خطر الإصابة بالأمراض لدى الطفل والتأثير على صحته بقية حياته. وتجدر الإشارة إلى أن أحد البحوث التي أجرتها منظمة الصحة العالمية في عام 2017 قد أكد أن حوالي ربع وفيات الأطفال (26٪)، وكافة الأمراض التي تصيب الأطفال دون سن الخامسة (25٪)، يمكن منعها عن طريق الحد من المخاطر البيئية التي تشمل تلوث الهواء والمياه غير الآمنة والنظافة غير الكافية والمواد الكيميائية.[13]
ووفقا لأحد التقارير الصادرة عن منظمة اليونيسيف[14] في عام 2022، يسبب الهواء الملوث في أوروبا “الوفاة أكثر من التبغ”. ويؤكد التقرير أن الطفل أكثر عرضة للتأثر بتلوث الهواء، بسبب عوامل عدة تشمل صغر الرئتين ونظام المناعة الذي لم يتطور بعد. ومن بين 43 دولة عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية و/أو الاتحاد الأوروبي، وجد أن الدول التي سجلت أعلى عدد من سنوات الحياة الصحية المفقودة بسبب تلوث الهواء هي كولومبيا (3.7) والمكسيك (3.7).
ووفقاً لتقرير اليونيسف، يعد التلوث الكيميائي “من أكبر العوامل التي تهدد صحة الطفل ونموه في جميع أنحاء العالم”. ويمثل انتشار بعض الملوثات المعروفة أمراً مثير للقلق. فالرصاص، على سبيل المثال، عبارة عن مادة سامة تؤثر على الأعصاب والقلب والأوعية الدموية. ويرتبط الرصاص بمجموعة كبيرة من الأضرار، فهو يؤثر على وظائف الجسم لدى الأطفال ومدى الانتباه والذاكرة والأداء الإدراكي. ويقول التقرير إن أكثر من طفل واحد من كل عشرين طفلاً في تسع دول من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والاتحاد الأوروبي يتعرضون للتسمم بالرصاص ــ حيث يعاني 13.4% من الأطفال في كوستاريكا، و31.1% من الأطفال في المكسيك، من ارتفاع مستويات الرصاص في الدم. ومن المثير للقلق أن هذا المعدن يمكن أن يسبب الضرر حتى عند تركيزات منخفضة للغاية. وبالإضافة إلى ذلك، يعيش أكثر من طفل واحد من كل عشرين طفلاً في أغلب هذه المجموعة من البلدان في مناطق تتزايد فيها المخاطر المرتبطة بالمبيدات الحشرية. ففي بولندا وجمهورية التشيك، على سبيل المثال، يعيش أكثر من 9% من الأطفال دون سن 18 عاماً في مناطق يزداد فيها خطر تلوث المبيدات الحشرية والذي ارتبط بالعديد من الأضرار التي تلحق بالجهاز العصبي والقلب والأوعية الدموية والجهاز الهضمي والجهاز التناسلي والجهاز المناعي للأطفال.
وما من شك أن أنماط الحياة الحديثة تعني أن التعرض للسموم البيئية أمر لا يمكن إغفاله. إذ تؤكد منظمة اليونسكو أن الهواء والماء والغذاء الملوث يجعل كل منا يستهلك دون قصد ربع كيلو جرام من البلاستيك سنوياً. ولعل أجسام الأطفال الضعيفة التي لا تزال في طور النمو والسلوكيات الخاطئة التي تزيد من المخاطر (مثل وضع الأصابع في الفم) تجعلهم أكثر عرضة للخطر. على الرغم من ذلك، لم يتم اختبار الـ 140 ألف مادة كيميائية ومبيد حشري التي تم تطويرها منذ الخمسينيات من القرن الماضي لمعرفة تأثيراتها السامة على أدمغة الأطفال التي لا تزال في طور النمو. وتجدر الإشارة إلى أن المواد السامة يمكن أن توثر على الأطفال حتى قبل ولادتهم إذا ما تعرضت النساء الحوامل لها. وقد أظهرت دراسة ضمت 3500 زوج من الأمهات والطفل أن زيادة مستويات المواد الكيميائية مثل المعادن السامة والمواد السامة البلاستيكية لدى الأمهات ارتبطت ببعض التأثيرات السلبية كانخفاض الوظائف الإدراكية وزيادة خطر الإصابة لدى الأطفال باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه والتوحد.[15]
ويؤدي النمو المتسارع للنفايات الإلكترونية، التي تشمل مخلفات أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة والأجهزة المنزلية، إلى تفاقم المخاطر الناجمة عن المواد الكيميائية، إذ تحتوي النفايات الإلكترونية على أنواع مختلفة من السموم، مثل الرصاص والزئبق، والتي من الممكن أن تضر بصحة الأطفال فتؤثر – على سبيل المثال – على تطور أجهزتهم العصبية ورئتيهم[16]. وقد شهد عام 2022 إنتاج 62 مليون طن من النفايات الإلكترونية – وهو رقم قياسي يفوق ما تم تسجيله في عام 2010 بنسبة 82٪[17]. ومن المقرر أن تزداد هذه الكمية بمقدار الثلث بحلول عام 2030 – مما يعني أن نسبة النفايات التي تتم معالجتها بشكل صحيح ستتراجع، حيث ستتجاوز كمية النفايات الإلكترونية جهود إعادة التدوير. ونظراً لذلك، فإن معالجة النفايات الإلكترونية بشكل غير رسمي من المنتظر أن تكون ضمن العوامل الرئيسة التي تعرض صحة الأطفال للخطر.
وقد ذكر تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية في عام 2021 أن أكثر من 18 مليون طفل يعملون في القطاع الصناعي غير الرسمي – والذي تعد معالجة النفايات قطاعاً فرعياً منه[18]. وتؤكد التقارير أن أيدي الأطفال الصغيرة والماهرة تجعلهم مؤهلين لفك الأجهزة الإلكترونية. والواقع أن العديد من الأطفال يشاركون في معالجة النفايات منذ سن مبكرة. وقد أوضحت غرف التجارة والصناعة في الهند أن حوالي 45000 طفل تتراوح أعمارهم بين 10 و14 عاماً كانوا يعملون في قطاع إعادة التدوير غير الرسمي في دلهي[19]، ولا توجد بيانات كافية عن النسبة التي تشمل النفايات الإلكترونية. أما منظمة العمل الدولية، فقد وجدت أطفالاً تتراوح أعمارهم بين 11 و18 عاماً – وأحياناً في سن الخامسة – يعملون في موقع للنفايات الإلكترونية في غانا[20]. بالإضافة إلى ذلك، يتعرض أطفال آخرون للخطر من خلال العيش أو الذهاب إلى المدرسة أو اللعب بالقرب من مراكز إعادة تدوير النفايات الإلكترونية. وقد دفعت النتائج التي توصلت إليها منظمة الصحة العالمية مديرها العام، الدكتور تيدروس أدهانوم جيبريسوس، إلى الدعوة إلى بذل جهود عالمية لحماية صحة الأطفال من “التهديدات المتزايدة” للنفايات الإلكترونية.[21]
أضرار التسويق
ومن العوامل الأخرى التي تم تسليط الضوء عليها في تقرير لجنة لانسيت لعام 2020 باعتبارها من المخاطر التي تهدد صحة وسلامة الأطفال “التسويق التجاري الضار”، الذي يروج للمواد المسببة للإدمان والسلع غير الصحية، كالوجبات السريعة والمشروبات التي تحتوي على السكر[22]. وترتبط هذه الممارسات “الضارة” بالسمنة، والتي زاد معدلها بمقدار 11 ضعفاً بين عامي 1975 و2016 – لتصل من 11 مليوناً إلى 124 مليوناً. من ناحية أخرى، يشكل الترويج للكحول والتبغ مصدراً قلق: ففي الولايات المتحدة، ارتفع معدل تعرض الشباب لإعلانات السجائر الإلكترونية التلفزيونية بنسبة 256٪ بين عامي 2011 و2013. وقال أحد أعضاء اللجنة إنه مع تحول الصناعات في أستراليا إلى الإدارة الذاتية، تعرض الأطفال والمراهقين لـ 51 مليون إعلان كحول خلال عام واحد فقط من مباريات كرة القدم والكريكيت والرجبي التلفزيونية، وبسبب عدم توافر البيانات الكافية عن الإعلانات التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الواقع قد يكون “أسوأ من ذلك بكثير”.[23]
تأثير جائحة كورونا
إن تقرير لجنة لانسيت نُشر في شهر فبراير من عام 2020، ولذا فإنه لم يأخذ الآثار المترتبة على جائحة فيروس كورونا المستجد في الحسبان. فقد كانت الجائحة في بداياتها آنذاك. أما الآن، فنحن ندرك تماماً أن الجائحة قد انطوت على العديد من المشكلات التي كان لها بالغ التأثير على صحة الأطفال. فبينما كان الشباب أقل عرضة لخطر الإصابة بالفيروس، أثبتت الدراسات أن كوفيد كان من الأسباب الرئيسة المسؤولة عن وفيات الأطفال. وقد كشفت دراسة أجراها باحثون من جامعة أكسفورد العام الماضي أن المرض احتل المرتبة الثامنة بين مسببات الوفاة لمن تتراوح أعمارهم بين 0 و19 عاماً في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان السبب الرئيس وراء 2٪ من حالات الوفاة.[24]
ويوضح أحد تقارير تقييم الأداء الصادر عن منظمة الصحة العالمية في عام 2022 أن الوباء كان له تبعات خطيرة أثرت بالسلب على صحة الأطفال، ويشمل ذلك صعوبة الحصول على الخدمات الصحية وتوافرها، وتعطيل الدراسة وتوقف الحماية الاجتماعية والأنظمة الاقتصادية[25]. ومع انتشار الصراعات وتفاقم ظاهرة تغير المناخ، تفاقمت المشكلات. ويشير التقرير إلى أن العامين الماضيين شهدا زيادة ملحوظة في معدل الظواهر السلبية التي يقع صغار السن ضحايا لها كزواج الأطفال، وانتشار الاكتئاب والقلق بين المراهقين، وممارسات العنف ضد النساء والفتيات.
ولعل تراجع معدلات التطعيم بين الأطفال من الأمور المثيرة للقلق، إذ يقول المدير التنفيذي لليونيسف إن الوباء قضى على كل ما تحقق من إنجازات على مدار أكثر من عقد فيما يتعلق بتلقي الأطفال للتطعيمات الروتينية[26]. وقد جاء في تقرير صدر عن المنظمة في عام 2023 أن الضغط على خدمات الرعاية الصحية وأوامر الحجر المنزلي كانت من بين الأمور التي أدت إلى ارتفاع عدد الأطفال الذين لا يتلقون التطعيمات الروتينية – فتراجعت معدلات التحصين إلى مستويات لم نشهدها منذ عام 2008. ويؤكد التقرير إن واحداً من كل خمسة أطفال إما لم يحصل على أي جرعة تطعيم (غير محصن تماماً) أو لم يحصل على كامل الجرعات المطلوبة. ومع تراجع الثقة في اللقاحات، من المنتظر أن يظل العديد من الأطفال عرضة للإصابة بأمراض يمكن الوقاية منها مثل الحصبة، والتي لا يتمتع واحد من كل خمسة أطفال بالحماية ضدها.
تحديات هائلة
ومع تعثر التقدم في هذا السياق وغيره من السياقات المهمة، ومع استمرار الضغوط الناجمة عن ظاهرة تغير المناخ والصراعات التي تنتشر حول العالم، باتت هناك حاجة ملحة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة من جانب الحكومات وغيرها من الجهات المعنية.
وقد سلط تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر في عام 2022 بشأن صحة المرأة والطفل والمراهقين[27] الضوء على أن “التقدم يسير بوتيرة بطيئة للغاية”، وقدم التقرير العديد من التوصيات التي تهدف إلى المساعدة في إعادة الجهود إلى مسارها الصحيح، ويشمل ذلك ولا يقتصر على تطوير أنظمة الرعاية الصحية الأولية، وتعزيز التعاون بين القطاعات بهدف تحسين الخدمات الأساسية الأخرى، ووضع أنظمة غذائية أكثر مرونة. وبينما أكد التقرير على أهمية الاستثمار، إلا أنه أشار في الوقت نفسه إلى وجود أزمة تمويل في قطاع الصحة على مستوى العالم، لا سيما في البلدان ذات الدخل المنخفض، وهو الأمر الذي سوف يتطلب زيادات غير مسبوقة في الإنفاق في القطاع الصحي. ويدق تقرير منظمة الصحة العالمية ناقوس الخطر معلناً أن هذا التحدي “يتطلب التعامل معه كأولوية قصوى”.
تقييم صادم بلا شك. لكن آخر التقارير الصادرة عن اليونيسيف فيما يتعلق بوفيات الأطفال يفسح مجالاً للأمل، حيث يشير إلى أنه بإمكاننا منع ملايين الوفيات التي تحدث بين الأطفال والشباب كل عام من خلال اتخاذ تدابير “عامة وفعالة ومنخفضة التكلفة في كثير من الأحيان”[28]. ويؤكد التقرير أن حجم موارد الدولة لا يعكس تقدمها في هذا المضمار. ففي العقود الأخيرة، نجحت العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض في تجاوز معدل الانخفاض العالمي في وفيات الأطفال دون سن الخامسة. فمنذ عام 2000، بينما انخفض هذا المعدل بنسبة 51٪ في جميع أنحاء العالم، سجلت ملاوي ورواندا، على سبيل المثال، انخفاضاً تجاوزت نسبته الـ 75٪. (ويرى البعض أن تطوير خدمات الصحة المجتمعية، وتفويض المسؤوليات على المستوى المحلي، وكذا التنسيق بين الجهات المانحة والمنظمات غير الحكومية، والتأكد من البيانات والأدلة، كانت ضمن عوامل تحقيق النجاح في هذه الدول)[29].
وتحتاج عودة الأمور إلى مسارها الصحيح وقتاً طويلاً بلا شك. وقد أوضحت لجنة لانسيت أن المخاطر التي تهدد صحة الأطفال تتزايد بسبب عوامل تقع خارج نطاق الرعاية الصحية التقليدي. ولذا فإن العمل عبر مجموعة واسعة من المجالات سوف يكون ضرورياً لمعالجة الأمور بشكل صحيح. فعلى سبيل المثال، تتضمن توصيات اللجنة بروتوكولا اختيارياً جديداً لاتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل من شأنه أن يلزم الحكومات الوطنية بالإشراف على المنتجات التي يمكن تسويقها للأطفال[30]. كما يؤكد التقرير أيضاً على أهمية الاستدامة، حيث ينص على أن “صحة الأطفال ومستقبلهم مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بصحة كوكبنا”. وقد قامت اليونيسف بدعوة الحكومات الوطنية والإقليمية والمحلية إلى العمل على التصدي لبعض القضايا المهمة مثل النفايات والتلوث، لأنها قضايا ” من شأنها الإضرار بالكوكب على المدى البعيد والإضرار بالأطفال وصحتهم وتهديد حياتهم اليوم”[31].
وبعيد عن عالم السياسة، يلعب العلم والابتكار دوراً مهما في هذا الصدد. فمن المنتظر أن يتناول أحد البحوث الجديدة الواعدة، الذي يتم تحت قيادة المركز الطبي لجامعة أمستردام، كيفية تأثير تغير المناخ على انتشار أمراض الإسهال بسبب التغيرات التي تشمل الفيضانات أو ارتفاع درجات الحرارة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعزز تطوير تدابير جديدة[32]. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تساعد التكنولوجيا الرقمية في دعم العاملين في مجال الرعاية الصحية أثناء تقديم الخدمات الأساسية، ويشمل ذلك التطبيق الذي تم ابتكاره بالتعاون مع جامعة كوليدج لندن، والذي يقوم بتقديم إرشادات خاصة برعاية الأطفال حديثي الولادة في البلدان الأفريقية والتي قد يصعب فيها الحصول على الموارد فيها[33]. وثمة إمكانيات جديدة ومثيرة تنطلق من تقنيات الذكاء الاصطناعي. حيث يتم في كينيا، استخدامه من أجل تسريع تشخيص أمراض الجهاز التنفسي، وهو الأمر الذي يوفر وقتاً ثميناً في مكافحة أمراض مثل الالتهاب الرئوي، والتي يمكن أن تقتل الأطفال في غضون أيام[34].
ومثل تلك المبادرات تشير إلى أن الأمل لا يزال موجوداً، حيث يستثمر الباحثون والعاملون في الخطوط الأمامية والمنظمات في جميع أنحاء العالم الوقت والجهد والموارد من أجل تحسين صحة الأطفال. وما نحتاج إليه الآن هو وجود القيادة التي تعمل على تشجيع مثل هذه المبادرات ودفعها إلى الأمام. ويشير تقييم الأداء الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية إلى أن “الدرس الرئيس المستفاد من الجائحة تمثل في أن ما يمكن إنجازه من خلال التعاون والشراكة يفوق بكثير أي مجهودات فردية”، ويدعو التقرير[35] أيضاً إلى تجديد التزام كافة الأطراف المعنية من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
في السياق نفسه، تدعو لجنة لانسيت إلى “تحرك عالمي جديد يركز على صحة الأطفال والمراهقين”، وتؤكد أن هذا التحرك لابد أن يتضمن مساهمة الأطفال أنفسهم. وكما جاء في تقرير اللجنة: “الأطفال والشباب مفعمون بالطاقة والأفكار والآمال والطموحات… ويتعين علينا أن نجد طرائق أفضل كي نصغي إلى ما لديهم من أفكار ونعزز ما لديهم من مهارات إذا كنا نرغب في بلوغ مستقبل مستدام وصحي لكوكبنا”.
[1] https://data.unicef.org/resources/levels-and-trends-in-child-mortality-2024/
[2] https://data.unicef.org/resources/levels-and-trends-in-child-mortality-2024/
[3] https://data.unicef.org/resources/levels-and-trends-in-child-mortality-2024/
[4] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/children-new-threats-to-health
[5] https://news.un.org/en/story/2023/01/1132187
[6] https://www.unicef.org/health/childhood-diseases
[7] https://www.who.int/health-topics/child-health#tab=tab_2
[8] https://www.thelancet.com/article/S0140-6736(19)32540-1/fulltext#seccestitle100
[9] https://e360.yale.edu/features/cyclone-freddy-malawi-aftermath
[10] https://www.surrey.ac.uk/news/climate-change-linked-spread-diarrhoeal-illness
[11] https://www.amsterdamumc.org/en/spotlight/tackling-the-effect-of-climate-change-on-diarrheal-diseases.htm
[12] https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(22)01797-4/fulltext
[13] https://www.who.int/publications/i/item/WHO-FWC-IHE-17.01
[14] https://www.unicef.org/innocenti/media/1776/file/UNICEF-Report-Card-17-Places-and-Spaces-EN.pdf
[15] https://www.unicef.org/innocenti/media/1776/file/UNICEF-Report-Card-17-Places-and-Spaces-EN.pdf
[16] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/electronic-waste-(e-waste)
[17] https://www.unitar.org/about/news-stories/press/global-e-waste-monitor-2024-electronic-waste-rising-five-times-faster-documented-e-waste-recycling
[18] https://iris.who.int/bitstream/handle/10665/341718/9789240023901-eng.pdf?sequence=1
[19] https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/—ed_dialogue/—sector/documents/publication/wcms_732426.pdf
[20] https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/@ed_dialogue/@sector/documents/publication/wcms_196105.pdf
[21] https://www.who.int/news/item/15-06-2021-soaring-e-waste-affects-the-health-of-millions-of-children-who-warns
[22] https://www.thelancet.com/article/S0140-6736(19)32540-1/fulltext#seccestitle370
[23] https://www.who.int/news/item/19-02-2020-world-failing-to-provide-children-with-a-healthy-life-and-a-climate-fit-for-their-future-who-unicef-lancet
[24] https://www.ox.ac.uk/news/2023-01-31-covid-19-leading-cause-death-children-and-young-people-us
[25] https://www.who.int/publications/i/item/9789240060104
[26] https://www.unicef.org/media/108161/file/SOWC-2023-full-report-English.pdf
[27] https://www.who.int/publications/i/item/9789240060104
[28] https://data.unicef.org/resources/levels-and-trends-in-child-mortality-2024/
[29] https://www.exemplars.health/topics/under-five-mortality/rwanda
[30] https://www.thelancet.com/article/S0140-6736(19)32540-1/fulltext#seccestitle10
[31] https://www.unicef.org/innocenti/media/1776/file/UNICEF-Report-Card-17-Places-and-Spaces-EN.pdf
[32] https://www.amsterdamumc.org/en/spotlight/tackling-the-effect-of-climate-change-on-diarrheal-diseases.htm
[33] https://www.ucl.ac.uk/made-at-ucl/stories/ucl-co-creates-app-will-improve-newborn-care-globally
[34] https://www.unicef.org/innovation/stories/strengthening-health-systems
[35] https://www.who.int/publications/i/item/9789240060104
مقالات ذات صلة
للاتصالات الإعلامية، والاستفسارات الصحفية، يرجى التواصل معنا على media@alj.ae، أو الاتصال بنا على رقم 0906 448 4 971+ (توقيت الإمارات العربية المتحدة يسبق توقيت غرينتش بمقدار 4 ساعات)