الاستثمار في التكنولوجيا الصحية ورقمنة الرعاية الصحية
بمقدور التكنولوجيا الصحية أن تحول الطريقة التي نتمكن بها من تشخيص ومعالجة والوقاية من الأمراض، كما أن لديها القدرة على تعزيز الحصول على الرعاية الصحية على مستوى العالم بشكل جذري، بيد أن التكنولوجيا وحدها ليست الترياق في ذاته ولكنها فقط جزء من نظام بيئي أضخم يشمل مبتكرين ومستثمرين وأطباء وحكومات ولوائح تنظيمية وبالطبع المرضى. والحق أن تحقيق الاستفادة العميمة من قدرة تكنولوجيا الرعاية الصحية وكذا تحسين نتائج المرضى في كل أرجاء المعمورة يتطلب وجود طرق جديدة من التعاون وأنماط جديدة من تقديم الخدمات، والأكثر أهمية من هذا وذاك وجود قنوات جديدة للاستثمار.
إنها حقا مقاربة شيقة، إذ نعيش الآن لفترات أطول بل ونحيا حياة أكثر رفاهية من ذي قبل، حيث أصبح بمقدورنا الحصول على سكن أفضل وكافة وسائل الراحة والعمل والتعليم ومنشآت الرعاية الصحية، وما ذاك إلا أننا صرنا أكثر تحضرا. وفي هذا الصدد، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن ثلثا سكان العالم سيعيشون في مناطق حضرية بحلول عام 2050، وما ذاك إلا نتيجة رئيسة لزيادة التحضر في كل من أفريقيا وآسيا.[1]
ولكن هذه نفسها هي الأسباب التي تلقي بمزيد من الضغوط على خدمات الرعاية الصحية، إذ إن طرق حياتنا التي جعلت الإنسان منشغلا ومضطربًا أكثر من ذي قبل تؤثر سلبًا على كل من صحته العقلية والبدنية، فوفقًا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية[2]، فإن منحى الأمراض غير المعدية مثل السكري والسرطان وأمراض القلب والرئة آخذ في الارتفاع حتى إنها مسئولة عن 70% من الوفيات حول مستوى العالم. وعزت منظمة الصحة، من جانبها، هذا الارتفاع إلى عوامل مثل الوجبات الغذائية الفقيرة وعدم ممارسة التمرينات الكافية والتدخين ومعاقرة الكحوليات والانتشار المتزايد لمشكلات الصحة العقلية، بالإضافة إلى تلوث الهواء والذي يعد واحدًا من أكبر التهديدات لصحة الإنسان.
وفي واقع الأمر، ذكرت منظمة الصحة العالمية في تقريرٍ لها أن التلوث قد غدا “الخطر البيئي الأدهى على الصحة”، إذ يؤثر سلبًا على تسعة من بين كل عشرة أشخاص ويقتل سنويا سبعة ملايين شخص من خلال الأمراض غير المعدية. وسوف يؤدي التغير المناخي في الفترة بين عامي 2030 و2050 إلى زيادة في أعداد الوفيات تقدر بـ250,000 شخص سنويًّا، وهو العدد الذي لن يقف التلوث وحده وراءه، بل ستتسبب فيه عوامل أخرى مثل الإجهاد الحراري والإسهال والملاريا وسوء التغذية في الدول الأكثر فقرًا في العالم.[3]
وتلقي كل هذه العوامل مجتمعة بضغوط متزايدة على أنظمة الرعاية الصحية، وهو ما يؤدي إلى الارتفاع المستمر في تكاليف العلاج وزيادة الضغط الزمني على المؤسسات والعيادات الطبية.
إن تكدس المزيد من البشر في الأحياء والمدن والتي ترزح فيها البنية التحتية للرعاية الصحية تحت وطأة الضعف والتخلف له تأثير غير مباشر على التسبب في المخاطر المتعلقة بالرعاية الصحية، والتي ليس أقلها ارتفاع نسبة الأمراض “الحيوانية” – وهي الأمراض التي تنتقل من الحيوانات للإنسان، وما داء كوفيد-19 منا ببعيد، فالمرض الذي أودى بحياة الآلاف من البشر عبر العالم ليس إلا مرضًا منقولا من الحيوان؛ وعلى الرغم من هذا النموذج الأحدث والأكثر تدميرًا (كوفيد-19)، إلا أن الأمر بعيد كل البعد عن كونه حالة شاذة غير معروفة؛ إذ إنه طبقا لما أورده المعهد الوطني للصحة، فإن الأمراض المنقولة من الحيوان مسئولة عن 60% من الأمراض المعدية المعروفة وعن 75% من الأمراض المعدية التي تستجد في العالم. وتشمل قائمة الأمثلة الأكثر شهرة في هذا الصدد كلا من الإيبولا وإنفلونزا الطيور (H5N1) والقاتل الأعظم في العالم – الملاريا والتي أصابت 500 مليون شخص وتودي بحياة 2.7 مليون كل عام.[4]
التكنولوجيا الصحية – المغير الجديد لقواعد اللعبة
تميط المعركة الدائرة ضد كل من الأمراض المعدية وغير المعدية، والتي حققت القليل من النجاحات الملحوظة، اللثام عن سجلنا غير المتناسق في العمل على كبح جماح مثل هذه التهديدات الصحية على الصعيد العالمي. وعلى الرغم من ذلك، فمن الممكن أن تكون الإنجازات القائمة على الذكاء الاصطناعي بشير خير لعصر جديدٍ في المعركة ضد العلل والأمراض، مدشنة بذلك مساراتٍ جديدةٍ يمكن من خلالها تقديم رعاية صحية ذات جودة عالية لهؤلاء الذين هم في أمس الحاجة إليها.
وتعرف منظمة الصحة العالمية “التكنولوجيا الصحية” على أنها “تطبيق المعرفة والمهارات المنظمة في شكل أجهزة وأدوية ولقاحات وإجراءات وأنظمة مطورة من أجل حل مشكلة صحية وتعزيز جودة حياتنا.”[5] وبعبارة أخرى، فإن التكنولوجيا الصحية تشمل مجموعة معقدة للغاية من مختلف الأطراف المعنية والعوامل التنظيمية، والتي ربما تمثل السبب وراء قبوع صناعة الرعاية الصحية في الوقت الراهن وراء غيرها من القطاعات فيما يتعلق بالتحول الرقمي، وفق ما ذكرته شركة “ماكنزي” للاستشارات العالمية.
ويقودنا في هذا المضمار كل من الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلية، والتي بمقدورها تحويل كميات ضخمة من بيانات المرضى إلى معلومات مهمة منقحة تستخدم في العلاج والوقاية من الأمراض وحتى التنبؤ بها قبل أن تصيب الإنسان،[6] إذ تسطيع برامج الذكاء الاصطناعي عن طريق برمجتها بمجموعة كبيرة ومعقدة من السيناريوهات القائمة على الاحتمالات من مقارنة وتنظيم بيانات صحية عالمية بسرعة كانت في ما مضى من ضروب الخيال. واعتمادًا على النتائج التي تتأتى، يستطيع الأطباء فهم الأنماط المتكررة ومن ثم يطورون أنماطًا علاجية تقوم على صفات معينة للمرضى.[7]
ويوجد بالفعل العديد من الأمثلة البسيطة نسبيا حول كيفية تطبيق الذكاء الاصطناعي داخل قطاعات صناعة الصحة.
أما نظام واتسون للصحة والذي قدمته شركة أي بي إم (IBM)، فإنه يجمع الخبرة البشرية بالذكاء المعزز من أجل مساعدة الخبراء والباحثين في مجال الصحة على بناء المعرفة وتقديم رعاية صحية أفضل عبر مئات المستشفيات على مستوى العالم.[9] فعلى سبيل المثال، يستطيع نظام واتسون للصحة التنبؤ بالتغييرات في مستويات السكر ثلاث ساعات قبل قبل حدوث الأزمة. أما فيما يتعلق بمجال الأورام، تستطيع الأنظمة الذكية التي قدمتها الشركة من تحليل عشرات الملايين من نقاط البيانات في ثواني معدودة بل وتحديد 300 علاجا بديلا لنحو 12 نوعًا على الأقل من أنواع السرطان، مسئولة عن 80% من إصابات السرطان العالمية.[10] فعلى سبيل المثال، أنتجت شركة إمباتيكا (Empatica) ساعة يد ذكية تستخدم اللوغاريتمات في قياس بيانات حرارة جسم الإنسان. وتستطيع الساعة التي اعتمدتها هيئة الغذاء والأدوية الأمريكية من تحذير مرتديها من العدوى قبل شعوره بأية أعراض، وهو الأمر الذي من شأنه المساعدة في الكشف عن المراحل المبكرة للفيروسات مثل كوفيد-19.[8]
أما منصة الذكاء الاصطناعي (DeepMind) التي أطلقتها جوجل، فإنها هي الأخرى تساعد الأطباء على تقديم نتائج أفضل لمرضاهم،[11] حيث طورت الشركة تكنولوجيا للتشخيص المبكر لإصابات الكلية الحادة والتي تصيب واحدًا من بين خمسة أشخاص من بين مرضى المستشفيات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحالة تكلف المملكة المتحدة وحدها بناء مستشفيات بأكثر من 1.2 مليار دولار سنويا.[12]
وهناك مجال آخر يصنع فيه الذكاء الاصطناعي فارقًا في تحسين الرعاية المقدمة لكبار السن، حيث يُستخدم الإنسان الآلي في التحدث والتفاعل الاجتماعي مع المرضى، فالمكوث لفترات طويلة في المستشفيات ودور الرعاية قد يمثل نوعًا من العزلة، لا سيما للمرضى من كبار السن. وعليه، فإن عملية التفاعل الآلي تساعدهم على البقاء مستقلين لفترات أطول، بل وتقلل من حاجاتهم لتلقي العلاج في المستشفيات ودور الرعاية، وهو ما يحسن نوعية وجودة حياتهم، ويساعدهم على البقاء متيقظين ويخفف من العبء الاقتصادي لنظم الرعاية الصحية فيما يتعلق بكبار السن.[13]
الاقتصاد ومراقبة الصحة الشخصية
تعتمد الدوافع وراء استخدام الرعاية الصحية القائمة على الذكاء الاصطناعي على الاقتصادات الحكومية بنفس درجة اعتمادها على نتائج المرضى. وفي الحقيقة، فإنه لا فكاك لهذين العاملين عن بعضهما البعض كون ارتفاع وتيرة المشكلات الصحية يلقي بظلاله على الميزانيات الحكومية. وفي هذا الصدد، تتوقع مؤسسة فوربس أن الذكاء الاصطناعي قد يوفر نحو 150 مليار دولار أمريكي لقطاع الصحة بحلول عام 2026، وهو ما يعني معالجة 20% من الاحتياجات الطبية غير الملباة. وفي الإطار ذاته، من المتوقع أن تصل استثمارات الذكاء الاصطناعي في قطاع الصحة 6.6 مليار دولار.
وقد استثمرت المملكة المتحدة وحدها نحو 306 مليون دولار في “معمل الذكاء الاصطناعي الوطني” (NHSX) بغية رقمنة خدمات الصحة الوطنية التي تقدمها. وتهدف المملكة من وراء ذلك إلى تفادي نحو 30 مليون موعد في العيادات الخارجية، وهو ما يوفر أكثر من 1.2 مليار دولار من الممكن إعادة استثمارها في رعاية الصفوف الأمامية وتخليص المرضى مما يوصف بالرحلات غير الضرورية للمستشفيات .[14]
وتعتبر الأجهزة القابلة للارتداء والقائمة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي طريقة أخرى تساعد في الحد من الذهاب للمستشفيات والعبء الزمني المتزايد الذي يلاقيه الأطباء،[15] إذ تتيح هذه الأجهزة الفرصة للأفراد لمراقبة صحتهم الخاصة ومستويات التمارين وأنماط النوم واتخاذ منحى وقائي بدلا من المنحى العلاجي فيما يتعلق بالرعاية الصحية. وعلى نطاق أوسع، تقدم هذه الأجهزة لشركات التأمين الطبي مؤشرا تستطيع من خلاله تقديم حزم تكلفة شخصية لعملائها، فضلا عن تقديمها للدوافع التي تؤدي بدورها إلى التغير السلوكي لحاملي وثائق التأمين .[16] وعلاوة على هذا كله، تفتح هذه الأجهزة التكنولوجية القابلة للارتداء الطريق أمام الموظفين لتحسين إنتاجيتهم على نحو كبيرٍ (إذ ضياع الوقت بسبب المرض قد يكلف الاقتصاد مليارات الدولارات.[17]
وقد كشف البحث الذي أجرته مجلةBusiness Insider الأمريكية أن أكثر من 80% من الزبائن منفتحين على استخدام الأجهزة القابلة للارتداء. وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه الأجهزة قد تطورت على نحو كبير لتشمل أجهزة مراقبة اللياقة المرتبطة بتطبيقات الهواتف الذكية والساعات الذكية التي تقيس نبضات القلب وشاشات التخطيط الكهربي للقلب التي بمقدورها قياس مخطط كهربية القلب واكتشاف الرجفان الأذيني (عدم انتظام ضربات القلب والتنفس)، وشاشات مراقبة ضغط الدم التي تستطيع تخزين ومتابعة ومشاركة البيانات مع الأطباء، بل والاطلاع المعمق على عادات مرتدي الجهاز مما قد يؤدي إلى التغير السلوكي.
ويرى البحث أن سوق أجهزة الصحة واللياقة القابلة للارتداء آخذ في النمو، إذ تضاعف السوق ثلاث مرات خلال السنوات الأربع الماضية في الولايات المتحدة وحدها، ومن المتوقع أن ينمو أيضا بنسبة 10% سنويا ليتخطى بذلك حاجز 120 مليون مستخدم بحلول 2023 [18] ، وهو ما يمثل أكثر من ثلث سكان البلد البالغ تعداده 330 مليون نسمة.
وبالإضافة إلى هذه الأجهزة التكنولوجية القائمة على الذكاء الاصطناعي، هناك اتجاه آخر نحو تطوير أجهزة صغيرة لجعل عمليات التشخيص أكثر إتاحة. فعلى سبيل المثال، تم تطوير جهاز محمول باليد وتزويده بـ9,000 مستشعر للقيام بمهام الأشعة فوق الصوتية بدون التعرض للتطبيقات الضارة لهذه الأشعة والناجمة عن الآلات التقليدية التي تولدها. وبالإضافة إلى هذا، هناك اتجاه الآن نحو تقديم عمليات التشخيص بأسعار مقبولة لثلثي سكان العالم بدون التعرض للتكنولوجيا الفوق صوتية .[19]
إن الاعتماد على أحدث منجزات الذكاء الاصطناعي في تعزيز إتاحة أجهزة التشخيص الفعالة قد غدا أولوية لمقدمي خدمات الرعاية الصحية والحكومات ومنظمات المجتمع المدني، وذلك على صعيد الأمراض المعدية وغير المعدية. وعلى الرغم من أن عمليات التشخيص تؤثر على نحو 70% من قرارات الرعاية الصحية إلا أن الاختبارات التشخيصية تشكل الآن من 3% إلى 5% من إجمالي الإنفاق في هذا المجال.[20] فعلى سبيل المثال، يساعد تحسين الحصول على قياسات السكر في الدم على تحسين الكشف عن السكري بين 50% من السكان في الدول التي يتلقى مواطنوها دخولا ضعيفة أو متوسطة والذين لا يعرفون أنهم قد أصيبوا بالمرض، وهو الأمر الذي من شأنه تقديم فرصة لا تقدر بثمن لحصولهم على علاج أفضل والحصول على نتائج أفضل على المدى الطويل.
وعلى صعيد مستثمري القطاع الخاص، فإن المرحلة الحالية من الابتكارات المشهودة في التكنولوجيا الصحية تؤذن بفرصة لتحقيق القيمة الحقيقية للنمو. ومن بين مجموعة الشركات التي استثمرت في أحدث ابتكارات أجهزة الذكاء الاصطناعي الطبية القابلة للارتداء، تعد شركتا جوجل وآبل الأكثر شهرة على الإطلاق. ووفقا لما ذكرته مؤسسة فوربس، فقد شهد عام 2019 استثمار مليارات الدولارات في أكثر من 100 شركة صحية رقمية.[21] وتشمل قائمة الأمثلة البارزة استحواذ شركة جوجل على جهاز مراقبة اللياقة القابل للارتداء “Fitbit”، وشراء شركة أمازون للملاح الصحي الذي يستخدم تقنيات تحليل البيانات الكبيرة من أجل تقديم الإرشاد الصحي.[22] أما عملاق رعاية الصحة “Optum”، فقد توسعت هي الأخرى في عروضها، حيث قدمت أجهزة مراقبة ذاتية للمرضى، وذلك عن طريق استحواذها على منصة “Vivify Health”، وهي المنصة السحابية التي يستطيع الأطباء من خلالها تقديم الرعاية عن بعد [23]
الصحة الافتراضية
وفي السياق ذاته، فإن فرص الصحة الافتراضية آخذة في التوسع، حيث يستطيع المرضى والأطباء الحصول على استشارات “افتراضية” في الوقت المطلوب ومن أي مكان تقريبًا. ومن المتوقع زيادة نسبة خدمات الصحة الافتراضية “التطبيب عن بعد” بنسبة 16.8% في الفترة بين 2017 و2023.[24]
وبالاعتماد على الصحة الافتراضية، يستطيع الأطباء تقديم الرعاية والدعم في الوقت والمكان المناسبين للمرضى، ولا سيما إذا ما كان هناك تحديات مكانية تتعلق بالمسافة بين المريض والطبيب أو إتاحة الوصول إلى تقديم الرعاية الصحية.[25] وتتعزز قدرة الصحة الافتراضية بشكلٍ أكبر من خلال البيانات التي يمكن للمرضى جمعها ومشاركتها مع أطبائهم من خلال الأجهزة التكنولوجية القابلة للارتداء.
وتجرى التجارب السريرية وفق نظام الصحة الافتراضي في كل أنحاء العالم، بدون الحاجة إلى مغادرة المشاركين لمنازلهم. وفي هذا الصدد، تمكن الباحثون في كلية الطب – جامعة ستانفورد – إلى دراسة 400,000 شخص من حيث قدرة الساعات الذكية على التعرف الآمن على “الرجفان الأذيني” لاضطرابات القلب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نحو 33 مليون شخص حول العالم يعانون من هذه الحالة، في حين أن ما يقارب على 30% من هذه الحالات لا يتم تشخيصها حتى تتأتى المضاعفات المهددة للحياة.[26] وقد كشفت الدراسة أن نسبة 80% من المشاركين الذين تلقوا إشعارات بنبض غير منتظم قد أصيبوا برجفان القلب الأذيني، وأن نسبة 57% منها قد طلبوا الرعاية الصحية .[27]
الاستثمارات في الفرص
أدركت عائلة الجميل منذ وقت بعيدٍ الحاجة للاستثمار في مجال الرعاية الصحية باعتباره واحدًا من ركائز البناء الرئيسية للبينة التحتية في حياتنا. وفي الحقيقة، فإن المغفور له مؤسس هذه المجموعة المتنوعة من الأعمال التجارية والمؤسسات الخيرية العالمية كان عضوًا مؤسسًا في عدد من المبادرات ذات التوجه الصحي في المملكة العربية السعودية وغيرها من بلدان المنطقة، على غرار مستشفى عبد اللطيف جميل للتأهيل الطبي، والذي أسس في عام 1995، فيما يعد أول مؤسسة تأهيل غير ربحية تعمل في المملكة العربية السعودية وتقدم الرعاية الشاملة للبالغين والأطفال.
وفي عام 2018، أسست عيادة عبد اللطيف جميل لتقنيات التعلم الآلي، أو ما يعرف بـ”عيادة جميل”، والتي تتخذ من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا مركزا لها مشاركة بين كل من مجتمع جميل والمعهد سالف الذكر. وكجزء من مهمتها، تحتل العيادة الآن صدارة البحث في تكنولوجيا الرعاية الصحية مع التركيز على استخدام الذكاء الاصطناعي لصياغة البيانات البيولوجية عبر أساليب مختلفة مثل التصوير وعلم الجينات وعمل اكتشافات جديدة في مجال التعلم الآلي وعلم الأحياء والكيمياء والعلوم الطبية .[28]
فعلى سبيل المثال، وفي خضم الجائحة الحالية، نجح الباحثون في عيادة جميل باستخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج نماذج قائمة على البيانات بغية إعطاء تنبؤات دقيقة حول كيفية تطور معدلات العدوى، وذلك بناء على أنماط حركة الناس وسلوكيات الجماعة.[29]
وفي الإطار ذاته، أجرت عيادة جميل أيضا دراسة للتنبؤ بإذا ما كان الشخص يعاني من الإرهاق الشديد أو أنه منهك القوى أو أنه يئن تحت وطأة القلق، وهي الأمور التي تزيد من احتمالية سقوطهم في براثن المرض، وذلك بناء على البيانات المجموعة من المستشعرات القابلة للارتداء والساعات الذكية.[30] ويخطط فريق الدراسة لتوسعة بحثهم بغية فحص العدوى الفيروسية، مثل سارس-كوف-2، وهو الفيروس المسئول عن كوفيد-19.[31]
وفي فبراير من عام 2020، حققت عيادة جميل نجاحًا آخر باهرًا، حيث تمكنت من اكتشاف مركب مضاد حيوي جديد وقوي باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو الهالسين. ويعتقد أن هذا الجزيء الذي اختاره النموذج والذي خضع للفحص من بين ما يزيد على مائة مليون مركب كيمائي في غضون أيام سيكون له نشاط قوي ضد البكتريا فضلا عن بنيته الكيميائية المختلفة عن جميع المضادات الحيوية الموجودة. واعتمادًا على نموذج مختلف للتعلم الآلي، كشف الباحثون أن هذا الجزيء من المرجح أن يكون أقل سمية لخلايا الإنسان.
وهناك معمل آخر أسسه مجتمع جميل بالاشتراك مع إمبريال كوليج في لندن، وهو معهد عبد اللطيف جميل لمكافحة الأمراض المزمنة والأوبئة والأزمات الطارئ (J-IDEA) أو ما يعرف بـ”معهد جميل” والذي يتخذ من الكلية سالفة الذكر مقرا له. ويستخدم هذا المعمل تحليل البيانات باستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل التعرف على، ورسم خريطة وإعطاء الأولوية للمخاطر الناجمة عن الأمراض المعدية والصحة العامة في جميع أنحاء العالم.[32]
من المعمل إلى المجتمع
لا يقتصر الأمر على مجرد الاستثمار في البحوث والتنمية من أجل تطوير ابتكارات وتكنولوجيات جديدة، إذ تستلزم عملية إضفاء تحسينات مستمرة ومستدامة في قطاع الرعاية الصحية إخراج التكنولوجيا من المختبرات إلى داخل القطاع بغية معالجة القضايا المتعلقة بالحصول على الرعاية الصحية والتكنولوجيا الصحية في المناطق النامية في العالم، حيث يكون الناس في أمس الحاجة إليها. وهذا هو السبب الذي جعل مجتمع جميل يتشارك أيضا مع كبرى الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الصحية في مختلف أرجاء العالم من أجل تعزيز الحصول على الرعاية الصحية.
وفي عام 2017، تعاون مجتمع جميل مع سايبردين (Cyberdyne)، الشركة اليابانية الرائدة في مجال التكنولوجيا الصحية والمتخصصة في تكنولوجيا إعادة تأهيل إصابات العمود الفقري باستخدام الهياكل الخارجية الآلية، فيما تعد الخطوة الأولى من نوعها لجلب مثل هذه التكنولوجيا شديدة التطور إلى المملكة العربية السعودية. وقد تم تمديد هذه الشراكة في عام 2019، بهدف نشر تكنولوجيا الأطراف الهجينة المساعدة (HAL®) في منطقة الخليج العربي[33] وإقامة مستشفى عبد اللطيف جميل كمركز إقليمي للتدريب.
وقد أرست مؤسسة مجتمع جميل أيضا شراكة مماثلة مع رائدٍ آخر من رواد التكنولوجيا الصحية اليابانية، وهي شركة سيلسبيكت (Cellsepct)، من أجل تقديم اختبارات دم سريعة ورخيصة التكلفة في الدول النامية في دول الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا والهند.
وقد طورت سيلسبيكت جهازًا محولًا للاختبار يمكنه فحص التحول الأيضي للسكر والدهون ووظائف الكبد، ويقوم بتسليم النتائج في نحو خمس دقائق.
وبهدف الترويج التجاري وتوزيع مثل هذه التقنيات المتطورة، تشاركت شركة عبد اللطيف جميل أيضا مع المنظمة اليابانية لتطوير الأجهزة الطبية (JOMDD) من أجل مساعدة العلماء والمهندسين والأطباء ورواد الأعمال على تقديم أجهزتهم وتكنولوجياتهم الجديدة للجمهور.
تستطيع التكنولوجيا الناشئة أيضا مساعدة المرضى بطرق متعددة، إذ تستخدم الطباعة ثلاثية الأبعاد الآن على نحو متزايدٍ في صناعة الأسنان الصناعية والهياكل المخصصة للعظام المكسورة.[34] ويعد استخدام تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد في تصنيع أطراف “صناعية” لمن يعانون من البتر أحد أهم الإنجازات في هذا المضمار. وفيما مضى كانت الأطراف الصناعية تتكلف عشرات الآلاف من الدولارات، فضلا عن أنها لم تكن متاحة إلا لطائفة قليلة من الناس. أما الآن، فأصبح بالإمكان تصنيع أطراف صناعية ثلاثية الأبعاد دقيقة بأقل من 30 دولار أمريكي، فضلا عن أنها قد غدت تقدم للمرضى في أكثر بلدان العالم فقرًا.[35]
إن ظهور شبكة الجيل الجامس (G5) سيزيد من إمكانية تقدم وتطور التكنولوجيا الصحية، حيث ستخول سرعات الاتصال الأكثر سرعة من نقل وبث البيانات الكبيرة (مجموعات البيانات الضخمة والكبيرة) بطريقة لم تكن متاحة من ذي قبل. وبالإضافة إلى هذا، ستفتح هذه الشبكة أيضًا الباب أمام الجراحين لإجراء جراحات في قارات أخرى بمساعدة التكنولوجيا الآلية.[36] وبمعدل استجابة يصل لـ0.1، أصبح بمقدور الجراحين إجراء عمليات جراحية حية على الجانب الآخر من العالم باستخدام التكنولوجيا الآلية القائمة على إنترنت الأشياء.[37]
تأمين بياناتنا
بالإضافة إلى العديد من التحديات التكنولوجية والمالية اللازمة للتحقيق التام لقدرة التكنولوجيا على إحداث ثورة في مجال الرعاية الصحية – كما نعلم-، فإن هناك عقبة أخرى كؤود، ألا وهي أمن البيانات. ويظهر المقترح حول إقامة بنوك بيانات تعاونية بين كل من المستشفيات والمناطق الجغرافية قدرة كبيرة على اكتساب معرفة أكثر شمولا. بيد أنه إذا ما أتينا إلى هذا القطاع الذي يقوم في الأساس على مبدأ سرية/خصوصية المريض، فإن هناك بعض المزايا والمساوئ التي ينبغي أن تتوازن، فحتى المعلومات الشخصية مجهولة المصدر والتي تمرر إلى العيادات قد تحوي معلومات حساسة حول العناوين السكنية السابقة للمريض ونمط الحياة والعلاقات الأسرية.[38]
وعليه، فإن وضع الإجراءات التنظيمية العابرة للحدود حيز التنفيذ لضمان عدم تعريض المعلومات الحساسة للمرضى تحت أي ظرف للخطر سيكون أمرًا بالغ الأهمية. ولكن مع انتشار المعلومات الشخصية وإتاحتها بالفعل عبر الانترنت، فليس هناك حل سهل لحماية البيانات الطبية التي يتم مشاركتها.
وبما أن سوق تكنولوجيا الصحة قد أصبح أكثر تنافسية، فقد غدت أهداف النجاح أكثر صعوبة لكل من العاملين فيه وكذا من يريد دخول هذا السوق من اللاعبين الجدد. وترى شركة ماكينزي أنه من أجل تحقيق الريادة في هذا المضار، ينبغي أن تكسب العروض الرئيسية التي يقدمها مطورو التكنولوجيا الصحية اهتمام المستثمرين من خلال تفهم تصورات العملاء وإجراء إجراءات بذل العناية الواجبة على نحوٍ صحيح وبناء أطر تكنولوجية قوية وتقديم أثر ملموس على هذه الابتكارات.
كما يجب أيضا أن يكونوا مستعدين وقادرين على التطور في ضوء الحاجة التي توجدها ابتكاراتهم. وعلاوة على هذا، يجب أن يكون لديهم خريطة طريق واضحة للبحث المتعمق والتنمية، إذ ديناميكيات الطلب تتغير عبر الزمن.[39]
لقد وجد سوق تكنولوجيا الصحة نفسه فجـأة يعتلي قمة الموجة.
وفي طريقه قدما للأمام، سيكون كل من الزخم والابتكار المستمر بمثابة المفتاح، بالإضافة إلى إيجاد قنوات مالية جديدة للتمويل من المستثمرين من ذوي الالتزام على المدى الطويل والرؤية الشاملة – على غرار عبد اللطيف جميل – والذين يرون أن النجاح لا يمكن فقط في تحقيق العوائد المالية، ولكننه يتحقق أيضا عن طريق النتائج الإنسانية.
الحواشي
[1]https://cities-spotlight.who.int/
[2]https://www.who.int/news-room/feature-stories/ten-threats-to-global-health-in-2019
[3]https://www.who.int/news-room/feature-stories/ten-threats-to-global-health-in-2019
[4]https://www.who.int/whr/1996/media_centre/executive_summary1/en/index9.html
[5]https://www.who.int/health-technology-assessment/about/healthtechnology/en/
[6]https://www.telegraph.co.uk/business/open-economy/new-technologies-transforming-healthcare/
[7]https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC6616181/
[8]https://www.jclinic.mit.edu/post/ml-for-covid-19-can-ai-give-you-an-alert-indicating-a-viral-infection-before-you-feel-symptoms
[9]https://www.ibm.com/watson-health/about/get-the-facts
[10]https://www.healthcareglobal.com/technology/four-ways-which-watson-transforming-healthcare-sector
[11]https://deepmind.com/blog/announcements/deepmind-health-joins-google-health
[12]https://deepmind.com/blog/article/predicting-patient-deterioration
[13]https://www.pwc.com/gx/en/industries/healthcare/publications/ai-robotics-new-health/transforming-healthcare.html
[14]https://www.england.nhs.uk/2019/06/nhs-aims-to-be-a-world-leader-in-ai-and-machine-learning-within-5-years/
[15]https://www.businessinsider.com/wearable-technology-healthcare-medical-devices?r=US&IR=T
[16]https://www.forbes.com/sites/reenitadas/2019/02/04/the-top-five-digital-health-technologies-in-2019/#4f4e55766c0f
[17]https://www.forbes.com/sites/ashleystahl/2020/03/12/3-ways-coronavirus-may-impact-the-future-of-the-workforce/#744b8bf1cef5
[18]https://www.businessinsider.com/wearable-technology-healthcare-medical-devices?r=US&IR=T
[19]https://www2.deloitte.com/us/en/insights/industry/health-care/health-tech-investment-trends.html
[20]https://stm.sciencemag.org/content/6/226/226ed6
[21]https://www.forbes.com/sites/greglicholai/2020/01/14/digital-healthcare-growth-drivers-in-2020/#74a8bfdb511d
[22]https://www.forbes.com/sites/greglicholai/2020/01/14/digital-healthcare-growth-drivers-in-2020/#74a8bfdb511d
[23]https://hitconsultant.net/2019/11/01/unitedhealth-optum-acquires-vivify-health/
[24]https://telemedicine.arizona.edu/blog/7-telemedicine-concerns-and-how-overcome-them
[25]https://www2.deloitte.com/content/dam/insights/us/articles/GLOB22843-Global-HC-Outlook/DI-Global-HC-Outlook-Report.pdf
[26]https://eu.usatoday.com/story/tech/2020/02/25/apple-watch-johnson-johnson-study-to-reduce-stroke-risk/4866152002/
[27]http://med.stanford.edu/news/all-news/2019/03/apple-heart-study-demonstrates-ability-of-wearable-technology.html
[28]https://www.jclinic.mit.edu/
[29]https://www.jclinic.mit.edu/post/neural-network-aided-quarantine-control-model-estimation-of-covid-spread
[30]https://www.jclinic.mit.edu/post/ml-for-covid-19-can-ai-give-you-an-alert-indicating-a-viral-infection-before-you-feel-symptoms
[31]https://www.jclinic.mit.edu/post/ml-for-covid-19-can-ai-give-you-an-alert-indicating-a-viral-infection-before-you-feel-symptoms
[32]https://www.imperial.ac.uk/jameel-institute/research/strengthening-health-systems/
[33]https://www.alj.com/en/news/abdul-latif-jameel-and-cyberdyne-expand-collaboration-across-gcc-region/
[34]https://www.healthecareers.com/article/healthcare-news/medical-technology
[35]https://www.huffingtonpost.co.uk/entry/these-low-cost-3d-printed-prosthetics-are-giving-people-a-hand_n_5b506664e4b086f60991a0cd?ri18n=true
[36]https://www.telegraph.co.uk/business/open-economy/new-technologies-transforming-healthcare/
[37]https://www.independent.co.uk/life-style/gadgets-and-tech/news/5g-surgery-china-robotic-operation-a8732861.html
[38]https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/feb/16/our-personal-health-history-is-too-valuable-to-be-harvested-by-tech-giants
[39]https://www.mckinsey.com/industries/private-equity-and-principal-investors/our-insights/private-equity-opportunities-in-healthcare-tech
مقالات ذات صلة
للاتصالات الإعلامية، والاستفسارات الصحفية، يرجى التواصل معنا على media@alj.ae، أو الاتصال بنا على رقم 0906 448 4 971+ (توقيت الإمارات العربية المتحدة يسبق توقيت غرينتش بمقدار 4 ساعات)