…بالمقاومة تتحقق الغايات
مواجهة خطر مقاومة مضادات الميكروبات (AMR)
تجعل عملية البستنة البسيطة الإنسان يفقد حياته: فأي جرح قد يتعرض للعدوى الميكروبية. ومع عدم توافر
الإمكانات فيما مضى، لم يكن هناك ما يمكن للمرء فعله سوى الأمل في عدم انتشار الميكروب، فكان الأمر يتعلق في الاساس بنظام المناعة ومدى قدرته على التصدي للبكتيريا
ودائما ما كانت المعركة تنتهي بانتصار البكتيريا.
عرف الإنسان “نظرية الجراثيم” الخاصة بالأمراض عندما طرحها جيرولامو فراكاستورو لأول مرة في عام 1546. وفي عام 1762 تناول ماركوس فون بلنتشيز النظرية نفسها ببعض التفصيل. ثم شهد أوائل القرن التاسع عشر إقبالاً على “لقاح” الجدري في أوروبا، على الرغم من أننا لم نكن وقتها على دراية بآلية عمل اللقاح أو حتى كيفية توسيع نطاق استخدامه عملياً ليشمل أمراضاً أخرى.
وفي منتصف القرن، خرج عمل لويس باستير، والذي تناوله روبرت كوخ بالتفصيل لاحقاً في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ومع اكتشاف الفيروسات في نهاية القرن، ولد علم البكتيريولوجي (علم الجراثيم)، لتسهم نظرية الجراثيم في تحديد الكائنات الحية التي تسبب العديد من الأمراض.
وباكتشاف البنسلين … تغير كل شيء.
فبدأنا أخيراً نحقق انتصارا في الحرب ضد البكتيريا بعد آلاف السنين من سقوط وفيات لاحصر لها.
لكن البكتيريا كائنات حية وهبها الله القدرة على التطور من أجل البقاء. ومنذ ظهور البنسلين، تتعرض هذه الكائنات إلى هجوم مضاد. لكن الكثير منها أصبح الآن يستطيع مقاومة أفضل العقاقير المضادة للميكروبات، وهو الأمر الذي جعلنا نحن البشر نقف مكتوفي الأيدي وبلا أية خيارات مطروحة. ومقاومة مضادات الميكروبات (AMR) لا تحتاج أن تتصدر عناوين الصحف كي ننتبه إليها. لكن علينا أن نعي أن مواجهتها أصعب بكثير من التصدي لفيروس كورونا – بل أنها قد تكون أكثر فتكاً منه. فما هو الخطر الذي تنطوي عليه مقاومة مضادات الميكروبات؟ وما حجمه؟ ولماذا نفشل في مواجهته؟ والأهم من ذلك، كيف يمكننا أن نغير الوضع الحالي إلى ما يخدم مصالحنا ويعود بالنفع علينا؟
الميكروبات تقاوم من أجل البقاء
أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) أن مقاومة مضادات الميكروبات تأتي على رأس قائمة مخاطر الصحة العامة العشر في العالم[1]. ونعني بمضادات الميكروبات تلك العقاقير التي تستخدم لغرض لوقاية من العدوى وعلاجها. ويعتبر البنسلين، والذي أسهم في انقاذ حياة حوالي 200 مليون إنسان منذ عام [2]1942، أشهر هذه المضادات على الإطلاق.
لكن الميكروبات الضارة ومسببات الأمراض لديها قدرة هائلة على تطوير دفاعاتها، والتي تشمل: البروتينات التي تطلق الجزيئات الضارة، والإنزيمات التي تتصدى للعقار وتعطل عمله، والتحورات التي تغير من شكل الجزيء (الجزيئات) التي يهاجمه/ها العقار[1]. وتنتشر المقاومة سريعا، كما يمكنها الانتقال إلى أنواع أخرى من البكتيريا عبر البلازميدات، وهي جزيئات حلقية في الحمض النووي يمكن أن تنتقل من نوع لأخر بسهولة.
ومن الممكن أيضاً لبعض مسببات الأمراض المقاومة لمضادات الميكروبات أن تنقل العدوى بين البشر والحيوانات والنباتات[4]. وتعتبر MRSA (المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين) من أكثر مسببات المرض المقاومة لمضادات الميكروبات التي تثير المخاوف نظراً لقدرتها على مقاومة معظم العقاقير[5].
ويطلق على هذا النوع من مسببات الأمراض “البكتيريا الخارقة” وهي لا تمثل سوى جزءاً من المشكلة. فمقاومة مضادات الميكروبات قد تؤدي إلى تفاقم حالات العدوى التي قد تحدث أثناء تقديم العلاجات أو القيام بالإجراءات الطبية. ويشمل ذلك العمليات الجراحية الاختيارية مثل استبدال مفصل الورك، والعمليات القيصرية التي أصبحت منتشرة في كل مكان، والعلاجات المثبطة للمناعة والتي تستخدم إلى جانب العلاجات الكيميائية، وزراعة الأعضاء. كما أنه لم يعد من السهل علاج الملاريا وفيروس نقص المناعة البشرية.
والأمر لا يتعلق بالبكتيريا وحسب. فمسببات الأمراض الأخرى مثل الفيروسات والفطريات تزداد مقاومةً للعقاقير التي يشيع استخدامها في العلاجات المختلفة، مما يزيد من معدلات الخطر خاصة لمن يعانون من ضعف المناعة.
فالفطريات تعتبر جزءاً طبيعياً من جسم الإنسان، وهي تلعب دوراً مهماً في تعزيز صحته. ولكن عندما تتراجع قوة الجهاز المناعي، تتطور بعض أنواع الفطريات وتتحول إلى عدوى فطرية غازية (IFIs) تؤثر بالسلب على أعضاء وأنظمة الجسم المتعددة، وقد يشمل ذلك الدم والقلب والدماغ والعينين أو أجزاء أخرى من الجسم.
وفي أكتوبر 2022، قامت منظمة الصحة العالمية بنشر أول قائمة لها تضم 19 نوعاً من الفطريات التي وصفت بأنها “مسببات الأمراض ذات الأولوية”. أربعة من هذه الأنواع كانت ذات “أولوية قصوى”[6]، وهي تشمل: Aspergillus fumigates، والتي تسبب التهابات الجهاز التنفسي لدى الإنسان، و Cryptococcus neoformans، وCandida auris ، والتي يمكن أن تسبب التهابات مجرى الدم، والتهابات الجروح وكذا التهابات الأذن، و Candida albicans التي تسبب مرض القلاع. وتتسبب العدوى الفطرية الغازية (IFIs) في حوالي 1.5 مليون حالة وفاة بالإضافة إلى 1.7 مليار عدوى سطحية كل عام[7]. والجدير بالذكر أن العقاقير المستخدمة في علاجها لم تعد ذات فعالية.
أزمة عالمية
تمثل مقاومة مضادات الميكروبات أزمة عالمية. ففي عام 2019، توفي حوالي 1.27 مليون شخص جراء عدوى سببها نوع من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. وقد خلفت أمراض القلب والسكتات الدماغية المزيد من الوفيات في العام نفسه[8]. ووفقا لتقرير مقاومة مضادات الميكروبات، والذي صدر بتكليف من حكومة المملكة المتحدة، من المتوقع أن يصل عدد الوفيات الناتجة عن مقاومة مضادات الميكروبات إلى 10 ملايين شخص بحلول عام [9]2050. والجدير بالذكر أن حوالي 80٪ من تلك الوفيات تحدث في العالم النامي[10]، ويعتبر غرب أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الأكثر تضرراً على الإطلاق، إذ تصل نسبة الوفيات المرتبطة بمقاومة مضادات الميكروبات هناك إلى 27.3 حالة وفاة لكل 100000[11]. ولكن ما من دولة نجت من هذه الأزمة. إذا تسجل الولايات المتحدة وحدها حوالي 2.8 مليون حالة عدوى مرتبطة بمقاومة المضادات الحيوية كل عام، وينتج عن ذلك حوالي 35900 حالة وفاة (وهو ما يمثل ارتفاعاً من 23000 حالة سجلت في عام 2013).[12]
وقد أثبتت جائحة فيروس كورونا أن انتشار العدوى لا يقف عند الحدود الجغرافية في هذا العالم المترابط. ففي عام 2003، ظهرت في الولايات المتحدة سلالة من الكلبسيلا Klebsiella قادرة على مقاومة المضادات الحيوية. وهذه السلالة معروفة بأنها قد تسبب الالتهاب الرئوي والإنتان والتهاب السحايا وغيرها من الأمراض الخطيرة. وبحلول عام 2008، كان قد تم تسجيل إصابات بهذه السلالة في جميع أنحاء العالم[13].
وبالإضافة إلى التسبب في حالات الوفاة أو العجز، تضع مقاومة مضادات الميكروبات عبئاً كبيراً على المجتمع، فهي تؤدي إلى إطالة فترة إقامة المريض في المستشفى، وتجعله في حاجة إلى شراء أدوية باهظة الثمن، فتؤثر بذلك على موارده المالية والإنتاجية.[14]
وتبلغ التكلفة السنوية لنفقات الرعاية الصحية وخسائر الإنتاجية المرتبطة بمقاومة مضادات الميكروبات حوالي 1.5 مليار يورو في الاتحاد الأوروبي[15]. ووفقا لتقديرات البنك الدولي، يمكن لمقاومة مضادات الميكروبات أن تؤدي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمعدل يتراوح بين 1.1٪ و3.8٪ بحلول عام 2050 – مما سيدفع بما يصل إلى 28 مليون إنسان، معظمهم في البلدان النامية، للسقوط ضحايا تحت براثن الفقر. [16]
وصفات طبية كثيرة ولا توجد عقاقير كافية
تنتشر مسببات الأمراض في البيئات “غير النظيفة”. إذ يؤدي عدم وجود مياه نظيفة أو عدم توافر خدمات الصرف الصحي أو عدم الاهتمام بالنظافة – سواء بالنسبة للبشر أو الماشية – يؤدي كل ذلك حتماً إلى الإصابة بالعدوى. لكن السبب الأول لمقاومة مضادات الميكروبات هو سوء استخدام المضادات الحيوية أو الإفراط في استخدامها سواء بين البشر أو الماشية.
وبالفعل ثمة إفراط في الوصفات الطبية التي تشتمل على المضادات الحيوية. وقد لوحظ أن ما يقرب من 50٪ من العلاجات بالمضادات الحيوية على مستوى العالم تبدأ بوصف العقاقير الخاطئة أو تتم بدون التشخيص الصحيح[17]. فغالبًا ما يضغط المريض على الأطباء لوصف المضادات الحيوية، حتى لو كان يعاني فقط من التهاب الحلق. وقد يصف الأطباء أنفسهم المضادات الحيوية في بعض الأحيان ظنا منهم أنها قد تكون مفيدة وقانعين بأنه في الحالات الفردية قد يكون من الأفضل عدم المخاطرة.
وفي عام 2016، أوضحت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) أن هناك 154 مليون وصفة طبية تشتمل على المضادات الحيوية تخرج من مكاتب الأطباء وأقسام الطوارئ في [الولايات المتحدة] كل عام، وأن 30 في المائة منها تعتبر غير ضرورية. وتشمل الأسباب الأخرى لتفاقم هذه المشكلة: عدم توافر إمكانيات الحصول على العلاج المناسب، وتراخي اللوائح التنظيمية، وغياب الرقابة على الوصفات الطبية وبيع العقاقير واستهلاكها.
يتناول الملايين من البشر والحيوانات على حد سواء المضادات الحيوية عند إصابتهم بالمرض، بل أنهم قد يتناولونها دون أن يمرضون. فالمزارعون يستخدمون المضادات الحيوية لغرض زيادة وزن الماشية والحفاظ على صحتها (ويكون ذلك في أغلب الأحيان بسبب الظروف المتردية). ولا شك أن التعرض المستمر للعقاقير، والتي تتسرب أيضاً إلى التربة والمياه، يزيد من احتمالية مقاومة مضادات الميكروبات. وعلى الرغم من أن مسببات أمراض الحيوانات يصعب أن تصيب البشر، فإنه من الممكن أن تنتقل قدرتها على المقاومة بسهولة إلى الميكروبات والجراثيم التي تستهدف الإنسان[18]. وبالفعل يلجأ المزارعون في بعض الأحيان إلى استخدام بعض المضادات الحيوية التي يستخدمها الأطباء البشريون كملاذ أخير في الحالات الطارئة، ويشمل ذلك عقار الـ”كوليستين” Colistin، والذي يعتبر خط الدفاع الحيوي الأخير ضد البكتيريا الأسينية والزائفة الزنجارية والكلبسية والمعوية. وفي عام 2015، تم اكتشاف بكتيريا تحتوي على بلازميدات تحمل جينات مقاومة للكوليستين في مريض محتجز في إحدى المستشفيات في الصين، ورأى الأطباء أنه من المحتمل أن تكون الماشية مصدر المشكلة.[19]
وينطبق الأمر نفسه على مقاومة مضادات الفطريات. ولا يقتصر الأمر هنا على أماكن الرعاية الصحية، والتي نشهد فيها دائما إفراطاً ملحوظاً في استخدام العلاجات المضادة للفطريات، بل يمتد ليشمل أيضا استخدام المواد المضادة للفطريات (مبيدات الفطريات) في الزراعة. فعلى سبيل المثال، عندما تتعرض الرشاشيات Aspergillus، والتي تنتشر في البيئة الطبيعية، لمبيدات الفطريات من الممكن أن تتطور لديها مقاومة ليس فقط ضد مبيدات الفطريات بل أيضا ضد العقاقير المماثلة المضادة للفطريات والتي تستخدم في علاج الالتهابات عند البشر. ومعنى ذلك أنه في حالة إصابة الإنسان بالمرض نتيجة لاستنشاقه الرشاشيات من البيئة، فإن العقاقير التي يمكن استخدامها لمواجهة العدوى ستكون غير فعالة.
ومع غياب الرقابة، تتفاقم مشكلة مقاومة مضادات الميكروبات بدرجة تثير المخاوف والقلق. فقد بلغ متوسط المقاومة لأولى المضادات الحيوية التي تم إطلاقها من ثلاثينيات إلى خمسينيات القرن الماضي 11 عاماً. أما بالنسبة للمضادات الحيوية التي تم إطلاقها من السبعينيات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد تراجع هذا المتوسط إلى عامين أو ثلاثة أعوام تقريباً. [20]
ومن المفارقات أن الإفراط المستمر في تناول المضادات الحيوية – وإساءة استخدامها – يجعل هناك حاجة إليها في الوقت الحالي تفوق أي وقت مضى.
في الوقت نفسه، تعاني سلاسل توريد المضادات الحيوية من تراجع حجم الاستثمارات، وتعتمد بشكل كبير على عدد محدود من المنتجين. وتتأثر البلدان منخفضة الدخل والبلدان مرتفعة الدخل على حد سواء بهذه المشكلة. فوفقاً لمجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) ، كان هناك نقصاً في 150 نوع من المضادات الحيوية في الولايات المتحدة بين عامي 2001 و2013. وفي المستشفيات الأوروبية، مثلت مضادات الميكروبات أكثر من 50٪ من جميع حالات نقص الأدوية في عام 2014 وعام 2019.[21]
وأكثر ما يثير الخوف والقلق الآن هو عدم وجود عقاقير جديدة.
لا يوجد مضاد حيوي يعمل بفاعلية لأجل غير مسمى. لنأخذ البكتيريا النيسرية البنية Neisseria gonorrhoeae مثالا. ظل البنسلين يستخدم في علاج من هذا النوع من البكتيريا بفاعلية تامة حتى أن تم استبداله بالتتراسيكلين. وقد جاء في الإيكونوميست: “لقد أفسح هذا المجال للفلوروكينولونات، والتي بدورها فتحت المجال للسيفالوسبورينات… والآن، ثمة بعض السلالات التي لا يمكن أن تعالج إلا بمزيج من السيفترياكسون، والسيفالوسبورين، والأزيثروميسين، والأزاليد. وبذلك نكون قد استخدمنا كل الأنواع الموجودة في خزانة العقاقير.”[22]
ومنذ العصر الذهبي لمضادات الميكروبات والذي امتد من الأربعينيات إلى السبعينيات، تراجع الابتكار تدريجياً. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، “توقفت خطوط التوريد الإكلينيكية التي كانت تخرج للبشرية بمضادات ميكروبات جديدة”. وفي عام 2019، حددت المنظمة 32 مضاداً حيوياً قيد التطوير الإكلينيكي لمواجهة قائمة مسببات الأمراض ذات الأولوية الخاصة التي اعلنتها. ومن ضمن تلك العقاقير، لم يصنف سوى ستة فقط كمضادات حيوية مبتكرة. [23]
ولكن لماذا تفوق مقاومة العقاقير تطوير العقاقير؟
إنه المال.
إذ يُعد إجراء البحوث على المضادات الحيوية وتسويقها وإنتاجها على نطاق واسع أمراً باهظ التكلفة. وبالفعل تسعى شركات العقاقير جاهدة من أجل إنعاش استثماراتها في السوق الحالية.
وترى هذه الشركات ميزة تجارية هائلة في التركيز على الأمراض المزمنة، التي تسمح لها بزيادة حجم المبيعات، حيث إن هذه الأمراض تحتاج إلى علاجات مطولة، وهو ما يتيح الفرصة للشركات كي تبيع المزيد من العقاقير لفترة طويلة، بينما يقتصر استخدام المضادات الحيوية على العلاجات قصيرة الأجل أو الطارئة.
من ناحية أخرى، لوحظ أن 84٪ من مبيعات المضادات الحيوية الجديدة اقتصر على الولايات المتحدة[24] خلال السنوات الثماني الأولى من خروجها للأسواق، وأن معظم هذه العقاقير لا يصل إلى الأسواق العالمية حيث إن تكلفة التسجيل والتسويق خارج الولايات المتحدة تفوق أية إيرادات متوقعة قد تدرها[25]. وتشير مجموعة بوسطن الاستشارية إلى أنه على الرغم من اعتماد 18 مضاداً حيوياً جديداً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان منذ عام 2010، لم يصل العديد منها إلى الأسواق حتى 31 ديسمبر 2020.
وقد صرح جيريمي نوكس Jeremy Knox، القائم على استراتيجية التعامل مع البكتيريا المقاومة للعقاقير في ويلكوم Wellcome قائلا: “حتى الثمانينيات، كان لدينا مساحة هائلة للبحث والتطوير فيما يخص المضادات الحيوية. حقاً كان هناك الكثير من البحوث، وكانت الشركات تجني أموال طائلة من المضادات الحيوية. وكانت لدينا حالات مقاومة للعقاقير. ولكننا كنا دوما مستعدين بخط إنتاج قوي. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي تراجعت الاستثمارات في هذا المضمار، ولم نعد نرى أية أنواع جديدة من العقاقير تطرح في الأسواق منذ عقود، ولم تعد الشركات ترى إمكانية لجني الأموال وتحقيق الأرباح من المضادات الحيوية. أضف إلى ذلك حقيقة أن مضمار العلم صعب ومراوغ، لتعرف لماذا يتجنب الناس الاستثمار فيه [26]“.
تناول الدكتور أكرم بوشناكي، الرئيس التنفيذي لشركة عبد اللطيف جميل للرعاية الصحية، الأفكار نفسها عندما قال: “إننا نعي أن تلك الصناعة تتطلب حجم مبيعات معين وسعراً معيناً للمنتجات، والسوق لا يوفر ذلك في الوقت الحالي. فالوضع الحالي يحتاج إلى التغيير. وبالطبع لن نتمكن من حل هذه المشكلة إذا كان القطاعان العام والخاص لا يرغبان في التحرك. لذا فنحن نحتاج إلى تغيير فكر المستثمرين ومستهلكي العقاقير على حد سواء “.
كيف يمكننا مواجهة مقاومة الميكروبات للعقاقير؟
إن هذه المشكلة تتطلب نهجاً يركز على محاور ثلاثة وهي:
▪ الحد من مسببات العدوى
▪ تعزيز الرقابة الدوائية
▪ تطوير المزيد من العقاقير وتيسير الحصول عليها
الحد من مسببات العدوى
على الرغم من أن العمل على تحسين الصحة العامة، لاسيما الاهتمام بالنظافة في المستشفيات وأماكن تربية الماشية، يقع ضمن السبل الرئيسة للحد من العدوى، إلا أنه لا يكفي وحده للحد من مقاومة مضادات الميكروبات. ولذا يجب توسيع نطاق الحصول على اللقاحات سواءً للبشر أو الحيوانات، إذ أن ذلك من شأنه المساعدة في الحد من انتشار مسببات العدوى.
تعزيز الرقابة الدوائية
ليتوقف الأطباء عن الإفراط في وصف مضادات الميكروبات للمرضى. تعتبر مقاومة مضادات الميكروبات جد مكلفة بالنظر إلى عملية الأيض. إذ أن البكتيريا عند تكوين الخطوط الدفاعية ضد العقاقير تستغل موارد كان من الممكن أن يستخدمها جسم الإنسان في عمليات أخرى مفيدة للبقاء والتكاثر. والبكتيريا لا تواصل المقاومة إلا عند استثارتها، وهو ما يعني أن تعرض البكتيريا للحد الأدنى من العقاقير سيؤدي إلى انحسارها والقضاء عليها[27]. وتشجيع الأطباء على التوقف عن وصف المضادات الحيوية بشكل مفرط سيكون مجدياً إلى حدٍ بعيد في هذا الصدد، ويبقى أن نفكر في الآلية التي يمكن بها تحقيق ذلك.
التأكيد على تناول الحد الأدنى من المضادات الحيوية وتناول كامل الجرعات الموصوفة.
يعتقد الكثيرون خطأً أن المسؤول عن تطوير مقاومة المضادات الحيوية هو المريض لا البكتيريا. وبالتوعية يمكن توجيه المرضى وتشجيعهم على تناول المضادات الحيوية بوعي ومسؤولية، واستخدامها فقط عند الحاجة، والتأكد من إنهاء كامل الجرعات الموصوفة وعدم التوقف بمجرد اختفاء الأعراض (إذا أن ذلك يؤدي إلى زيادة فرص بقاء مسببات الأمراض وتطور مقاومة مضادات الميكروبات).
تشخيص الحالة بدقة. يمكن لمجموعات التشخيص التي تحدد ما إذا كانت العدوى قابلة للعلاج بالمضادات الحيوية أم لا أن تحل محل المضادات الحيوية الوقائية كلية، أو تحدد ما إذا كان يمكن علاج عدوى مثل السيلان بالبنسلين ام لا وهو ما يسهم في التراجع عن وصف المضادات الحيوية الأكثر تكلفة. ولابد أن تكون هذه المجموعات رخيصة وسريعة. فمجموعةMBT Lipid Xtract ™ ، التي تم إطلاقها في سبتمبر 2021، متاحة في جميع أنحاء العالم (باستثناء الولايات المتحدة) للأغراض البحثية. ويأمل مبتكريها أن يتم اعتمادها باعتبارها من أدوات التشخيص السريري في أقرب وقت.[28]
حظر استخدام المضادات الحيوية مع الماشية. لقد حظر الاتحاد الأوروبي بالفعل استخدام المضادات الحيوية كمعززات لنمو الماشية. كما أن الولايات المتحدة أيضاً لا تسمح باستخدام المضادات الحيوية ذات الأهمية الطبية في تعزيز النمو، ولكن لا يزال من الممكن استخدامها لغرض الوقاية من الأمراض وعلاجها – وهي ثغرة واضحة تنذر بسوء الاستغلال.
تطوير المزيد من العقاقير وتيسير الحصول عليها
عجزت قوى السوق منذ فترة عن طرح مضادات ميكروبات جديدة. في هذا الصدد، ثمة سبيلان لتعزيز عملية الابتكار وتشجيعها: المبادرات التشجيعية (مثل المنح الحكومية) التي تقدم بغرض دعم عمليات البحث والتطوير، ومبادرات الاستقطاب التي تهدف إلى مكافئة العقاقير التي تحقق نجاحاً (مثل ضمان الإيرادات).
وحتى الآن ظلت المبادرات التشجيعية تمثل الأسلوب السائد. وتشمل تلك المبادرات مبادرة كارب – إكس CARB-X، وهي شراكة عالمية – لا تهدف إلى الربح – يتمثل الغرض منها في تمويل البحوث قبل السريرية وتبلغ قيمتها 500 مليون دولار أمريكي. وقد قدمت هذه المبادرة الدعم إلى 92 مشروعاً (بما في ذلك تسعة عشر نوعاً جديداً من المضادات الحيوية، وثمانية لقاحات، وأثنا عشر منتجاً تشخيصياً). وهناك مؤسسة ريبير امباكت -الغير هادفة للربح أيضاً – وهي عبارة عن صندوق تبلغ قيمته 165 مليون دولار أمريكي موجه لتطوير علاجات مضادات العدوى فيما قبل المرحلة الأولى ضد مسببات الأمراض المقاومة للعقاقير والتي يجب التعامل معها بشكل طارئ. وهناك أيضاً صندوق “إيه إم آر إكشن فاند” AMR Action Fund، والذي يمثل تحالفاً عالمياً يضم القائمين على صناعة العقاقير، وممولين من المؤسسات الخيرية، وبنك التنمية متعدد الأطراف، والذي من المنتظر أن يضع استثمارات تقدر بأكثر من 1 مليار دولار أمريكي في شركات التكنولوجيا الحيوية. من ناحية أخرى، توفرمبادرة الشراكة العالمية لبحوث وتطوير المضادات الحيوية، وهيئة البحث والتطوير الطبي الحيوي المتقدم، توفر تمويلاً إضافياً رئيسياً لغرض تشجيع التطوير الإكلينيكي.
وعلى الرغم من أن هذه المبادرات قد حققت بعض النجاحات، إلا أنها لم تغير الفكر الاقتصادي الأساسي[29].
ويأخذنا ذلك إلى مبادرات الاستقطاب.
تكمن الفكرة في تعويض شركات العقاقير عما تكبدته من تكاليف من أجل تطوير مضادات ميكروبات جديدة بغض النظر عما إذا كانت مستخدمة أم لا، وهو ما يعني ضمان قيام المستشفيات والحكومات بشراء كميات كبيرة من العقاقير الجديدة لتخزينها لا لاستخدامها على الفور. فالأمر أشبه بتركيب طفايات حريق في مبنى ما، أملاً في ألا يتم استخدامها أبداً.
وفي الوقت الحالي، يتم الدفع للمستشفيات في الولايات المتحدة الأمريكية مقابل استخدامها؛ ويحتاج الأمر إلى مبادرات تهدف إلى بناء مستودعات للمضادات الحيوية الجديدة. ويعمل القائمون على صناعة الدواء في الولايات المتحدة الأمريكية على دعم قانون باستير، والذي من المنتظر أن يقوم بتوفير مدفوعات مقدمة تصل قيمتها إلى 3 مليارات دولار أمريكي إلى مطوري العقاقير في مقابل الحصول على المضادات الحيوية الجديدة بكميات غير محدودة[30]. وسوف يتيح “نموذج الاكتتاب” لشركات الأدوية استرداد ما قامت بإنفاقه في استثماراتها المتعلقة بالبحث والتطوير دون الاضطرار إلى بيع كمياتٍ كبيرة من المضادات الحيوية في مكان آخر[31].
وقد خلصت دراسة مقاومة مضادات الميكروبات إلى مقترح بالدفع لمرة واحدة ما تتراوح قيمته بين 800 مليون دولار أمريكي و1.3 مليار دولار أمريكي للعقاقير التي نحتاج إليها[32]. في الوقت نفسه، انتهت حكومة المملكة المتحدة مؤخرًا من مراجعة وتقييم التكاليف فيما يتعلق بمدفوعات اثنين من المضادات الحيوية الموجودة في نموذج الاكتتاب تم تطويرهما من قبل شركة “فايزر” و “شيونوجي آند كو”. وسوف يتم تأكيد التفاصيل في وقت لاحق [33]. من ناحية أخرى، تعكف السويد على تنفيذ نموذج تجريبي مشابه.[34]. لكن على الرغم من كل ذلك، لن يكون لكل هذه المبادرات سوى تأثير محدود بالنظر إلى حجم المشكلة عالمياً.
ويقول بيتر جاكسون، الرئيس التنفيذي لشركة انفيكس ثيرابيوتكس والرئيس السابق لمركز مقاومة مضادات الميكروبات: “لا تمثل المملكة المتحدة سوى 4٪ إلى 5٪ من سوق الأدوية العالمية “. “وحتى نتمكن من تغيير الوضع، نحتاج إلى أن يتعاون الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع المملكة وأن يقترن ذلك بتطبيق نموذج الاكتتاب والاستعانة به في مكانه الصحيح”[35]
العالم يحتاج إلى المزيد من الفابيمايسين Fabimycin
أوضحت إحدى الدراسات التي نشرتها المجلة العلمية ACS Central Science، أن الفابيمايسين Fabimycin، وهو مضاد حيوي جديد، يمكنه مقاومة 300 نوعاً من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، ويشمل ذلك البكتيريا المقاومة العقاقير التي تسبب الالتهاب الرئوي وعدوى المسالك البولية[36]. قد يكون الوقت مبكراً للحديث عن هذا العقار (فقد تم اختبار الفابيمايسين على الفئران فقط) ولكنه جد واعد. إذ تقع عدوى المسالك البولية ضمن أبرز مصادر الخطر التي ترتبط بمقاومة مضادات الميكروبات، حيث يصاب معظم الأشخاص بهذه العدوى مرة واحدة على الأقل في حياتهم.
الذكاء الاصطناعي في مواجهة مقاومة مضادات الميكروبات
ليس لدينا خيار آخر… فالمضادات الحيوية في حاجة إلى المزيد من الاستثمارات. ولكن ماذا لو أصبحت أقل سعراً وأكثر تطوراً؟
في عام 2020، حققت عيادة عبد اللطيف جميل لتطبيق تقنيات التعلم الآلي في مجال الصحة (عيادة جميل Jameel Clinic) بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) اكتشافاً رائداً بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI)
إنه عقار الهاليسين Halicin الذي يستطيع القضاء على بعض أخطر أنواع البكتيريا المقاومة للعقاقير في العالم. والجدير بالذكر أنه أول مضاد حيوي يتم اكتشافه بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
توصل فريق العمل في عيادة جميل إلى عقار ال Halicin الهاليسين باستخدام خوارزمية تم تطويرها خصيصاً لفحص أكثر من مائة مليون مركب كيميائي خلال أيام. ويمكن استخدام التقنية نفسها على أنواع أخرى من العقاقير مثل تلك التي تستخدم لعلاج السرطان أو الأمراض العصبية.
وعلى الرغم من أن عملية اكتشاف العقاقير بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي تمثل مجالاً جديداً يحتاج منا إلى الكثير من العمل، إلا أنها تبشر بإمكانيات هائلة قد تحدث ثورة حقيقية في مجال الرعاية الصحية على الصعيد العالمي.
الاستثمار الآن أو تحمل العواقب
إن مقاومة مضادات الميكروبات (AMR) خبيثة. فهي تهدد حياة الملايين من البشر وتتحدى أساسيات الطب الحديث. ولكنها – على الرغم من ذلك – لم تحظى بما تستحقه من اهتمام، ولم تٌتخذ الإجراءات المطلوبة حيالها. إن محاربة الفيروسات تحتاج إلى تنسيق الجهود في مجالات العلم والاقتصاد وكذا تعديل اللوائح والسلوكيات. إنها مهمة جد صعبة، ولكن علينا أن نثق في عبقرية الإنسان والتعاون بين البشر –لأن البديل لن يكون مقبولا.
يقول الدكتور أكرم بوشناكي: “يجذب مرض مثل السرطان الباحثين وتُجري عليه أبحاثاً عديدة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، ذلك لأنه مرض معروف ويؤثر على حياة الكثيرين. والمضادات الحيوية جد ضرورية بالنسبة للمجتمع الحديث. كما أن البنية التحتية لكل شيء في مجال الطب تعتمد عليها. على الرغم من ذلك، غالباً ما يتم تجاهلها نظراً لأنه دائماً ما يكون هناك أمورًا تعد أكثر “إثارة ” أو أكثر إلحاحاً يتعين علينا التركيز عليها.
علينا أن نبدأ في توجيه الاهتمام والموارد اللازمة للمضادات الحيوية وإلا فإن مشكلة مقاومة مضادات الميكروبات سوف تتفاقم “.
[1] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/antimicrobial-resistance
[2] https://www.newworldencyclopedia.org/entry/Alexander_Fleming
[3] https://www.economist.com/briefing/2016/05/21/the-grim-prospect
[4] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/antimicrobial-resistance
[5] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/antimicrobial-resistance
[6] https://www.who.int/publications/i/item/9789240060241
[7] https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC7764418/
[8] https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(21)02724-0/fulltext
[10] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[11] https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(21)02724-0/fulltext
[12] https://www.cdc.gov/drugresistance/pdf/threats-report/2019-ar-threats-report-508.pdf
[13] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[14] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/antimicrobial-resistance
[15] https://www.ema.europa.eu/en/human-regulatory/overview/public-health-threats/antimicrobial-resistance
[16] Drug Resistant Infections: A Threat to Our Economic Future, World Bank, 2017
[17] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[18] https://www.economist.com/briefing/2016/05/21/the-grim-prospect
[19] https://www.economist.com/briefing/2016/05/21/the-grim-prospect
[20] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[21] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[22] https://www.economist.com/briefing/2016/05/21/the-grim-prospect
[23] https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/antimicrobial-resistance
[24] https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/33664435/
[25] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[26] https://wellcome.org/news/drug-resistant-infections-science-economics
[27] https://www.economist.com/briefing/2016/05/21/the-grim-prospect
[28] https://www.imperial.ac.uk/news/232355/rapid-test-antibiotic-resistance-could-help/
[29] https://www.bcg.com/publications/2022/model-for-tackling-antimicrobial-resistance
[30] https://www.congress.gov/bill/117th-congress/house-bill/3932/text
[31] https://invivo.pharmaintelligence.informa.com/IV146673/Solutions-To-The-AMR-Silent-Pandemic-Need-More-Than-Just-Lip-Service?vid=Pharma
[32] https://amr-review.org/sites/default/files/160525_Final%20paper_with%20cover.pdf
[33] https://invivo.pharmaintelligence.informa.com/IV146673/Solutions-To-The-AMR-Silent-Pandemic-Need-More-Than-Just-Lip-Service?vid=Pharma
[34] https://www.government.se/499178/globalassets/government/dokument/socialdepartementet/amr_strategi_eng_web.pdf
[35] https://invivo.pharmaintelligence.informa.com/IV146673/Solutions-To-The-AMR-Silent-Pandemic-Need-More-Than-Just-Lip-Service?vid=Pharma
[36] https://pubs.acs.org/doi/full/10.1021/acscentsci.2c00598#
مقالات ذات صلة
للاتصالات الإعلامية، والاستفسارات الصحفية، يرجى التواصل معنا على media@alj.ae، أو الاتصال بنا على رقم 0906 448 4 971+ (توقيت الإمارات العربية المتحدة يسبق توقيت غرينتش بمقدار 4 ساعات)